الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.المسألة الرابعة: حكم الأذكار التي في الرقى: إنا نرى في كتب الطلسمات والعزائم أذكارًا غير معلومة ورقى غير مفهومة وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة، وأقول: لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ، ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية فتلك الرقى إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلًا لم يكن فيها فائدة.وإن كانت دالة على شيء فدلالتها إما أن تكون على صفات الله ونعوت كبريائه، وإما أن تكون دالة على شيء آخر: أما الثاني فإنه لا يفيد؛ لأن ذكر غير الله لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب، فبقي أن يقال: إنها دالة على ذكر الله وصفات المدح والثناء، فنقول: ولما كانت أقسام ذكر الله مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية، وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر، فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات، لكن لقائل أن يقول: إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة، فإذا قرؤا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات، فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير، أما إذا قرؤا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئًا وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم، وتوجه إلى عالم القدس، وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير، فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقى المجهولة..المسألة الخامسة: مناسبات عجيبة بين الخلق وبين أسماء الله تعالى: إن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة، والعاقل لابد وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر، والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية، فبعضها إلهية مشرقة حرة كريمة، وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة، وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة، وبعضها قاسية قاهرة، وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها، وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء، ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس، وإن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجًا معينًا وطريقًا مبينًا في الإرادة والكراهة والرغبة والرهبة، وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية، وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان، فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» وبقوله عليه الصلاة والسلام: «الأرواح جنود مجندة» إذا عرفت هذا فنقول: الجنسية علة الضم، فكل اسم من أسماء الله تعالى دال على معنى عين، فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم، فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعًا، وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة، ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له أخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق، وإن رآه متأثرًا عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر، وأقول: هذا هو المعقول، فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسبًا لحالة مخصوصة، فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلًا هينًا يسيرًا، وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء، والله الهادي..الباب التاسع: في المباحث المتعلقة بقولنا: الله: وفيه مسائل:.المسألة الأولى: لفظ الجلالة علم لا مشتق: المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى، وأنه ليس بمشتق ألبتة، وهو قول الخليل وسيبويه، وقول أكثر الأصوليين والفقهاء، ويدل عليه وجوه، وحجج:الحجة الأولى: أنه لو كان لفظًا مشتقًا لكان معناه معنى كليًا لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين، فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقًا لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين، ولو كان كذلك لما كان قولنا: لا إله إلا الله توحيدًا حقًا مانعًا من وقوع الشركة فيه بين كثيرين؛ لأن بتقدير أن يكون الله لفظًا مشتقًا كان قولنا: الله غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة، وحينئذٍ لا يكون قولنا: لا إله إلا الله موجبًا للتوحيد المحض، وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا: لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا: الله اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة، وأنها ليست من الألفاظ المشتقة.الحجة الثانية: أن من أراد أن يذكر ذاتًا معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولًا ثم يذكر عقيب الاسم الصفات، مثل أن يقول: زيد الفقيه النحوي الأصولي، إذا عرفت هذا فنقول: إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولًا لفظة الله ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول: الله العالم القادر الحكيم، ولا يعكسون هذا فلا يقولون: العالم القادر الله، وذلك يدل على أن قولنا: الله اسم علم.فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم: {العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} [إبراهيم: 1 2] قلنا: هاهنا قراءتان منهم من قرأ الله بالرفع، وحينئذٍ يزول السؤال، لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله، وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا: هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل، بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل؟ فقيل عقيبه زيد، ليصير هذا مزيلًا لذلك الاشتباه، ولما لم يلزم هاهنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية.الحجة الثالثة: قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] فوجب أن يكون المراد اسم العلم، فكل من أثبت لله اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا الله.واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج:الحجة الأولى: قوله تعالى: {وَهُوَ الله في السموات} [الأنعام: 3] وقوله: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 255] فإن قوله: الله لابد وأن يكون صفة، ولا يجوز أن يكون اسم علم، بدليل أنه لا يجوز أن يقال: هو زيد في البلد، وهو بكر، ويجوز أن يقال: هو العالم الزاهد في البلد، وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين: إن الضمير لا يقع موصوفًا ولا صفة، وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم.الحجة الثانية: أن اسم العلم قائم مقام الإشارة، فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعًا في حقه.الحجة الثالثة: أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية، وإذا كان هذا في حق الله ممتنعًا كان القول بإثبات الاسم العلم محالًا في حقه.والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جاريًا مجرى أن يقال: هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد؟ والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة، ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشارًا إليه بالحس أم لا، وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة..المسألة الثانية: من قالوا إن لفظ الجلالة اسم مشتق: الذين قالوا: إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعًا:الفرع الأول: أن الإله هو المعبود، سواء عبد بحث أو بباطل، ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق، وعلى هذا التفسير لا يكون إلهًا في الأزل.واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة، وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، والواجب واحد وهو الله تعالى، وما سواه ممكن، والممكن لا يوجب إلا بالمرجح، فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه إما ابتداء وإما بواسطة، فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله، فثبت أن غاية الأنعام صادرة من الله والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا فنقول: إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى.الفرع الثاني: أن من الناس من يعبد الله لطلب الثواب وهو جهل وسخف، ويدل عليه وجوه: الأول: أن من عبد الله ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء، فمن عبد الله لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب، وكان الله تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود، وهذا جهل عظيم.الثاني: أنه لو قال: أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب، لم تصح صلاته.الثالث: أن من عمل عملًا لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة، فمن عبد الله للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد الله، ومن كان كذلك لم يكن محبًا لله ولم يكن راغبًا في عبادة الله، وكل ذلك جهل، ومن الناس من يعبد الله لغرض أعلى من الأول، وهو أن يتشرف بخدمة الله، لأنه إذا شرع في في الصلاة حصلت النية في القلب، وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية، وحصل الذكر في اللسان، وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة الله، فمقصود العبد حصول هذا الشرف.الفرع الثالث: من الناس من طعن في قول من يقول: الإله هو المعبود من وجوه: الأول: أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة.الثاني: أنه تعالى إله الجمادات والبهائم، مع أن صدور العبادة منها محال.الثالث: أنه تعالى إله المجانين والأطفال، مع أنه لا تصدر العبادة عنها.الرابع: أن المعبود ليس له بكونه معبودًا صفة؛ لأنه لا معنى لكونه معبودًا إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان، ومعلوم بعلمه، ومراد خدمته بإرادته، وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة لله تعالى.الخامس: يلزم أن يقال: إنه تعالى ما كان إلهًا في الأزل.الفرع الرابع: من الناس من قال: الإله ليس عبارة عن المعبود، بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبودًا، وهذا القول أيضًا يرد عليه أن لا يكون إلهًا للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين، وأن لا يكون إلهًا في الأزل، ومنهم من قال: إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة عنه، واعلم أنا إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلهًا في الأزل، ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلهًا في الأزل.التفسير الثاني: الإله مشتق من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته، وبيانه من وجوه: الأول: أن الكمال محبوب لذاته، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته؛ لأن الممكن من حيث هو هو معدوم، والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته، فإذا كان الكامل محبوبًا لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوبًا لذاته.الثاني: أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقف عند نفسه، بل يبقى متعلقًا بغيره، لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره، فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد، وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي، فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه، وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى: {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28].التفسير الثالث: أنه مشتق من الوله، وهو ذهاب العقل.واعلم أن الخلق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر معرفته، ومحرومون، فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته، فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو، وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار، فالأولون بادوا في أودية الظلمات، والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات.التفسير الرابع: أنه مشتق من لاة إذا ارتفع، والحق سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات؛ لأن الواجب لذاته ليس إلا هو، والكامل لذاته ليس إلا هو، والأحد الحق في هويته ليس إلا هو، والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو، وأيضًا فهو تعالى مرتفع عن أن يقال: إن ارتفاعه بحسب المكان، لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض؛ لأجل حصوله في ذلك المكان، وما بالذات أشرف مما بالغير، فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن، ولما كان ذلك باطلًا علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان، وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان.
|